الطفلة وئام.. مأساة جديدة للأخطاء الطبية والإهمال الصحي في تعز

السياسية - منذ ساعتان و 48 دقيقة
تعز، نيوزيمن، خاص:

في غرفة العناية المركزة بمستشفى الصفوة بمدينة تعز، يقف الصحفي عبدالستار بجاش مع أفراد أسرته منذ أيام على أمل أن يسمع من جديد صوت طفلته "وئام" وهي تناديه ببراءتها المعهودة. أصيبت الصغيرة بانتكاسة مفاجئة أدخلتها في غيبوبة طويلة بعد رحلة علاج شاقة، كانت بدايتها خطأً طبياً بسيطاً — كما يقول والدها — لكنه تحول إلى مأساة مؤلمة هزّت قلوب اليمنيين وأعادت تسليط الضوء على واقع الخدمات الصحية المتدهور في البلاد.

منذ أيام، يكتب بجاش على صفحته تفاصيل موجعة عن "رحلة الألم" التي تعيشها ابنته ذات السنوات القليلة، والتي تحوّلت من مراجعة روتينية لأحد المستشفيات إلى معاناة مستمرة بين غرف الغسيل الكلوي وأجهزة الإنعاش.

يقول الأب بحسرة: "فلذة كبدي وئام تمر بمحنة جديدة بعد صراع مع بكتيريا في الكلى وجلسات غسيل مؤلمة خلال الأسبوع الماضي أرهقت جسدها، وتسببت بمضاعفات خطيرة لها."

صراع مع الألم والأمل

ويروي بجاش تفاصيل تلك اللحظة التي ظنّها بداية الشفاء: "مساء الخميس وصلت إلى تعز بالتزامن مع خروجها من العناية المركزة إلى قسم الرقود، عشنا لحظة أمل لن أنساها بتحسنها النسبي، حين احتضنتها ومدّت يديها لتبادلني الحضن مع قبلة خرجت من قلبها المتعب."

لكن صباح الجمعة كان مختلفًا — إذ تغير كل شيء فجأة: "كانت تنظر إليّ بعيون حزينة ومنكسرة، ثم تعرضت لتشنج ودخلت في غيبوبة مستمرة حتى الآن." التقرير الطبي، كما يؤكد والدها، أشار إلى إصابتها بالتهابات في الدماغ ناجمة عن مضاعفات متسلسلة من علاج غير دقيق، لتبدأ بعدها رحلة سباق مع الزمن لإنقاذ حياتها.

يقضي بجاش ساعات طويلة أمام باب العناية المركزة، ينتظر بارقة أمل في أن تفتح ابنته عينيها من جديد. يقول في إحدى تدويناته: "يارب لا تفجعنا، أريد أن أسمع صوتها وهي تنطق حرف الطاء والتاء وكلمة (ماء) كما كانت تفعل قبل أيام من مرضها. هي بحاجة لدعائكم أن يعافيها الله من كل سوء وأن يخرجها سالمة معافاة."

ويضيف بحرقة: "لم أكن أتخيل يوماً أن خطأ طبياً بسيطاً يمكن أن يدخلنا هذا النفق الطويل من المعاناة، أنظر إلى صور ابنتي الصغيرة وجسدها المتورم جالسة على كرسي المستشفى متصلة بأنابيب تسحب دمها وتعيده إليها بعد أن يُنقّى من السموم، وملامح وجهها الهادئة تخفي ألماً كبيراً وتبدو شجاعة رغم التعب في عينيها."

مأساة تتجاوز الوجع 

القصة المؤلمة لوئام لم تعد حالة فردية، بل نموذجاً صارخاً لما يعانيه آلاف المرضى في اليمن نتيجة غياب الرقابة الطبية وتدهور البنية الصحية وازدياد الأخطاء الناجمة عن الإهمال ونقص الكوادر المؤهلة.

ويقول أطباء يمنيين ومختصين في الجانب الصحي في تعليقات على منشورات الصحفي عبدالستار إن الحادثة تعكس واقعاً مؤلماً لمؤسسات صحية تعمل في ظروف الحرب دون معايير مهنية واضحة، ما يجعل المرضى — وخصوصاً الأطفال — أكثر عرضة للأخطاء الكارثية.

الصحفي بجاش أشار لاحقاً إلى أن التقارير الطبية كشفت عن جلطتين في الدماغ لدى ابنته أدتا إلى توقف الجانب الأيمن من جسدها، إلى جانب ارتفاع كريات الكلى إلى مستوى 6، في مؤشر خطير على تدهور حالتها الصحية.

ويختم بقلب مثقل بالألم: "يا رب، جسدها لم يعد يحتمل.. يا رب صبّرنا وامنحها شفاءً لا يغادر سقماً."

ورغم قسوة اللحظات التي يعيشها، لم يفقد بجاش إيمانه بأن الشفاء ممكن. يكتب على صفحته في ختام أحد منشوراته: "ما زلت أتمسك بالأمل، أرفع يدي إلى السماء وأقول: اللهم اشفها وعافها، وأنصفنا ممن كان سبباً فيما أصابها. وئام ليست مجرد ابنتي، إنها رمز لكل وجع أبٍ يراقب ألمه في صمت."

مأساة الطفلة وئام فجّرت موجة تعاطف شعبي واسع على منصات التواصل، فيما طالب صحفيون وناشطون بفتح تحقيق عاجل في الحادثة ومحاسبة المتسببين، مؤكدين أن مثل هذه الأخطاء لا يمكن تبريرها أو تجاهلها.

ويرى مراقبون أن استمرار صمت الجهات الطبية والرقابية في تعز يضاعف الشعور بانعدام العدالة، ويشجع على التهاون في أرواح الأبرياء، مشيرين إلى أن قضية وئام يجب أن تكون منعطفاً لمراجعة شاملة لقطاع الصحة في المدينة التي أنهكتها الحرب والفوضى.

إحصائيات صعبة وأوجاع لا تُحصى

من الصعب — إن لم يكن المستحيل — الحصول على إحصائية دقيقة لعدد ضحايا الأخطاء الطبية في اليمن، إذ لا توجد جهة مستقلة توثق الحالات بشكل منهجي، فيما تظل المئات من القصص المروعة تتناقلها منصات التواصل الاجتماعي كدليلٍ مؤلم على عمق الكارثة. ففي ظل غياب الرقابة وضعف البنية الصحية، تحوّلت المستشفيات— الحكومية منها والخاصة— إلى ساحة مفتوحة للأخطاء القاتلة، حيث يدخل المريض بحثًا عن العلاج ليخرج جثة هامدة أو محمّلاً بعاهة دائمة.

خلال سنوات الحرب، تزايدت معدلات الوفيات الناتجة عن الأخطاء الطبية بشكل ملحوظ، في وقتٍ تضاعفت فيه شكاوى المواطنين من غياب الكفاءات الطبية والمهنية، وتردي مستوى الخدمات المقدمة، وعدم التزام كثير من المستشفيات بمعايير السلامة أو بروتوكولات العلاج الحديثة. ووفق شهادات متداولة، فإن أبرز أسباب هذه الأخطاء تتمثل في نقص الخبرة لدى الأطباء والممرضين، وسوء التشخيص، وسوء استخدام الأدوية والمعدات الطبية، إلى جانب انعدام الرقابة والمساءلة القانونية.

ويشير تقرير صادر عن المجلس الطبي الأعلى في صنعاء عام 2020 إلى تلقي نحو 200 شكوى رسمية من مواطنين حول أخطاء طبية ارتكبت في مستشفيات حكومية وخاصة، لكن هذا الرقم لا يعكس الواقع الفعلي، إذ إن معظم الحالات لا يتم الإبلاغ عنها بسبب جهل المواطنين بالإجراءات القانونية، أو خوفهم من نفوذ المؤسسات الطبية، أو قناعتهم بعدم جدوى الشكوى. وبحسب مختصين، فإن العدد الحقيقي قد يكون أضعاف المعلن، خصوصًا في المحافظات البعيدة عن مراكز السلطة أو في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة.

ويؤكد مراقبون أن استمرار هذا الوضع يعكس فوضى عارمة في النظام الصحي اليمني، حيث تتراجع المعايير المهنية أمام غياب المساءلة، وتُهدر الأرواح بصمتٍ في بلدٍ أنهكته الحرب والفساد وانهيار المؤسسات. وبينما تتواصل الحكايات المأساوية لأسرٍ فقدت أبناءها نتيجة "أخطاء يمكن تفاديها"، يبقى الأمل معلقًا على إصلاح جذري يعيد للطب هيبته ويضع حدًا لهذا النزيف الإنساني المستمر.