ربى عياش

ربى عياش

تابعنى على

من الأدلجة إلى الاغتراب: قراءة في صناعة التطرف

منذ 4 ساعات و 7 دقائق

التطرف ليس مجرد سلوك عنيف، بل نتاج بنية عقلية مغلقة ترى العالم من منظور أحادي يقوم على امتلاك الحقيقة المطلقة. وهذا بدوره يقود إلى تبرير العنف، ورفض الآخر، وتجريمه.

هذا الوصف يعيدنا إلى جذور المشكلة، في محاولة لتفكيكها: أليست الميكيافيلية السياسية المتبعة في النظام العالمي السياسي والاقتصادي، والتنشئة الدينية والاجتماعية المستمرة منذ ثلاثين عاما على الأقل – إن أردنا حصر الحديث في العصر الحديث – والتي ساهمت في تحجيم استخدام العقول وتجفيف ينابيع التفكير الحر، هي السبب الأساسي في هذا الانغلاق؟

حين تُصاغ التربية على أساس الطاعة لا النقد، ويُربّى الأفراد على أن السؤال جريمة، والتأمل بدعة، والاجتهاد خروج عن النص، فإن الناتج الحتمي هو عقل عاجز عن التمييز بين المعلومة والحقيقة، بين الحرف والجوهر، وبين الدين كمحبة والدين كأداة. هنا نتحدث عن قوالب جاهزة يتم تحضيرها من شرق العالم إلى غربه، لتتحول المؤسسة الدينية من مساحة لإنتاج الإيمان إلى جهاز ضبط اجتماعي يُعاد تدويره لخدمة السلطة، ويُستخدم لقمع المخالف بدل احتضانه أو فهم دوافعه.

قوالب نظم عالمية تم ابتداعها منذ قرون، وما زالت تُستخدم حتى اليوم، لتنتج تابعين لا أحرارا.

إن غياب مجتمع مدني حقيقي يتمثل في مؤسسات إنسانية ومدنية ونقابية تمثل الإنسان وتحفظ حقوقه في مختلف القطاعات، إلى جانب انعدام مناخ الحريات أو تقييده قدر الإمكان، وهجر طاولات الحوار، والامتناع عن سماع الرأي المختلف باحترام، كل ذلك أدى إلى خلق مجتمعات غير قادرة على المناظرة أو المجادلة من أجل التوصل إلى مشاريع وطنية أو إنسانية أو قومية، أو لبناء مؤسسات تخدم المصلحة العامة. وقد تم استبدال ذلك بفوضى مجتمعية وأخلاقية، أصبح فيها الجدل أداة للإقصاء أو القمع أو التكفير والإلغاء.

يمكن القول إن العالم يعاني من أزمة حقوقية وأخلاقية، ومن هشاشة في الثوابت القيمية. هناك ميل واضح نحو تراجع قيم التقبل والاحترام والنقاش، وميل أكبر نحو تبنّي الميكيافيلية في السلوك السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعقائدي، وكأن العنف – الرمزي والمباشر – أصبح لغة الحكم السائدة.

العالم يقف اليوم أمام مأزق أخلاقي وحقوقي وإنساني حقيقي، في ظل ما يتم تطبيعه من احتلالات، وعدم احترام سيادة الدول وحدودها وأراضيها ومواردها وهوياتها الثقافية. خطابات رئاسية عنصرية، تهميشية، وتهشيمية للآخر، تتكرر من الولايات المتحدة إلى مناطق أخرى كثيرة في العالم.

نعود إلى الفكرة الأساسية: انتشار التطرف الفكري والفوضى الفكرية وتعزيزهما في المجتمعات، خاصة في الشرق الأوسط. خلال العقود الأخيرة، شهدت المنطقة تدميرا ممنهجا، نتيجة دخولها في قلب الصراع بين الاتحاد السوفييتي والغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة. صراع اصطفّت فيه القوى الغربية – سواء كانت تمثل الحزب الجمهوري أو الديمقراطي – على عداء مشترك للشيوعية، فكانت المنطقة ساحة لتصفية الحسابات، وتم دعم تيارات الإسلام السياسي، من الإخوان إلى القاعدة، كأدوات مرحلية، دون اكتراث بتأثير هذه المشاريع على تكوين المجتمعات التي احتضنتها وهويتها.

وهذا ليس تحليلا مجردا، بل موثق بتصريحات رسمية. هيلاري كلينتون قالت صراحة إن واشنطن دعّمت “المجاهدين” في أفغانستان خلال الثمانينات لمحاربة السوفييت بمساعدة المخابرات الباكستانية. أما باراك أوباما، فقد أقر بذلك في تصريحات سابقة. ودونالد ترامب ذهب أبعد، حين صرّح بأن “أوباما وهيلاري أسّسا داعش.” وغيرهم من المسؤولين الأمنيين والسياسيين الأميركيين صرّحوا بتصريحات مشابهة بين الحين والآخر.

أما علاقة الإخوان المسلمين بالاستخبارات البريطانية، فهي موثقة تاريخيا منذ الأربعينات، حين استُخدمت الجماعة كأداة لاحتواء المد القومي واليساري، وتمت إعادة تفعيل هذه العلاقة في العقد الأخير، خصوصا خلال ما سُمّي بـ”الربيع العربي”، حين اعتُبروا “الأداة الأقرب للضبط” في دول شهدت فراغا سياسيا مفاجئا.

لكن المشكلة لا تكمن فقط في من صنع هذه الجماعات، بل في ما خلّفته من فراغ فكري وعاطفي وأخلاقي في المجتمعات التي ترعرعت فيها، وفي كيفية التعامل مع هذا الفراغ.

في الوقت الذي كانت فيه هذه المشاريع تُصمَّم خلف المكاتب المغلقة، كانت أجيال بأكملها تُترك في ظل اقتصاد مدمر، دون تعليم نوعي، دون حماية اجتماعية، وبخطابات متطرفة مرعبة، ودون معنى حقيقي لوجودها. وبذلك، تم تسميم واقعها، وغُسلت أدمغتها بنجاح.

لتجد هذه الأجيال نفسها أمام خيارين: إما الهروب إلى الخارج، أو الالتجاء إلى الأيديولوجيا كملاذ آمن وسط الخراب. وفي قانون كوني تتجلى فلسفته في حياتنا، فإن لكل فعل رد فعل، ولكل قرار ثمن تدفعه أجيال تلو أجيال.

لذلك، على هذه المنطقة أن تنتشل نفسها، وتُنقّح تاريخها، وإيمانها، وعقائدها، وتعيد بناء هياكلها الدينية والتعليمية، بخُطبها الإيمانية، وتحريضها السياسي، وتبعيتها الحزبية، ومناهجها التعليمية. والأهم: أن تنتشل نفسها اقتصاديا من القاع والفقر والحاجة. وإن لم يحدث ذلك، فإن واقع المنطقة سيتدهور من سيء إلى أسوأ.

هناك أجيال تم العبث بعقولها، وغُرست فيها روايات مشوّهة عن الإيمان، وأُقنعت بأنها حقائق نهائية. ولأن هذا العقل المغلق، المعطّل، تسهل السيطرة عليه سياسيا، ويسهل توجيهه للطاعة العمياء لمن يُقدَّم له كرمز مقدّس أو مشروع مخلّص، فإنه يصبح أداة مدمرة بيد من يتحكم بخطابه ومعيشته، لا بيده.

ويُصبح من السهل تجريده من حقوقه، والنيل من واقعه، وسلب إمكاناته، ومع ذلك، يبقى ملتزما بالطاعة لا بالوعي.

ولذلك، فإن إعادة البناء ليست قرارا ولا خطابا ولا بيانا، بل هي مشروع تاريخي طويل الأمد، يبدأ من الطفولة، ويُكتب في المناهج، ويتجسد في القانون، وتتبناه المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والدينية والإعلامية والمجتمع ككل. وإلا، فإننا فقط نُعيد تدوير ذات النكبة الفكرية التي نحاول تجاوزها.

لن نتمكن من إعادة بناء منزل دون إصلاح كافة الزوايا والتأكد من ثباتها: من اقتصاد يحترم كرامة الإنسان، إلى حريات سياسية واجتماعية ودينية وعقائدية تحترم التنوع العقلي والفكري والإبداعي، إلى إعادة بناء ثقافي، فكري، تعليمي، إيماني، عقائدي، وتنقيح كل ما سُمم على مدار قرون مضت، ثم البدء بخلق مجتمع مدني بمؤسسات ونقابات تمثل الإنسان وحقوقه وكرامته.

كرامة الإنسان التي يبدو أنها تحتاج إلى إعادة تعريف من جديد، في ظل هذا النظام العالمي الذي يسيطر منذ عقود على الكثير من مفاصل العصر الحديث.

*صحيفة العرب اللندنية