تعز تغرق بالأمراض.. الكوليرا تفتك بالسكان وسط أزمة مياه حادة

السياسية - منذ 6 ساعات و دقيقة
تعز، نيوزيمن، خاص:

تحولت أزمة المياه الخانقة في مدينة تعز إلى بوابة مفتوحة أمام كارثة صحية جديدة، إذ أعلنت السلطات الصحية تسجيل (5030) حالة اشتباه بوباء الكوليرا و(10) وفيات خلال الفترة الماضية. هذه الأرقام تكشف عن واقع خطير تتداخل فيه الأبعاد الصحية والإنسانية مع الأزمة المعيشية المزمنة التي تعانيها المدينة منذ سنوات، لتصبح الكوليرا انعكاسًا مباشرًا لانهيار منظومة الخدمات الأساسية وغياب الأمن المائي.

وتؤكد السلطة الصحية أن تفشي الوباء في تعز ليس مجرد أزمة صحية عابرة، بل نتيجة طبيعية لتراكم طويل الأمد من التحديات، أبرزها الحصار المستمر من قبل الميليشيات الحوثية وتدمير البنية التحتية، إضافة إلى غياب شبكات صرف صحي آمنة وارتفاع أسعار المياه النظيفة بشكل جنوني، الأمر الذي أجبر آلاف الأسر على الاعتماد على مصادر غير مأمونة.

أزمة المياه تتحول إلى كارثة

يصف أهالي تعز أوضاعهم بـ"المأساوية"، إذ لم تعد أزمة المياه مجرد معاناة خدمية يومية، بل تحولت إلى تهديد مباشر للحياة. فأسعار المياه النقية وصلت إلى مستويات قياسية تجاوزت 60 ألف ريال للوايت الواحد، وهو رقم صادم بالنسبة للأسر الفقيرة التي تعتمد في دخلها على أعمال هامشية أو لا تتقاضى مرتباتها بشكل منتظم منذ سنوات. ويؤكد سكان محليون أن "شراء الماء أصبح رفاهية لا يستطيع معظم الناس تحملها"، حيث تضطر كثير من الأسر إلى تقنين استهلاك المياه لحدودها الدنيا، والاكتفاء بكميات ضئيلة لا تلبي احتياجات الشرب والنظافة الأساسية.

هذا العجز في الوصول إلى المياه النظيفة أجبر آلاف السكان على اللجوء إلى بدائل غير آمنة مثل الآبار السطحية والجوفية، التي تعاني من الاستنزاف الشديد والتلوث جراء اختلاطها بمياه الصرف الصحي أو تسرب النفايات. الأمر لا يقتصر على المنازل، بل يشمل الأسواق والمطاعم والمخابز التي تعتمد بدورها على تلك المصادر، ما يجعل دائرة الخطر الصحية أوسع من حدود الاستخدام الفردي.

ويحذر أطباء وصحيون في تعز من أن استمرار الوضع على هذا النحو يجعل تعز "بيئة مثالية للأوبئة"، إذ أن الاعتماد على المياه الملوثة يفتح الباب أمام انتشار أمراض مميتة مثل الكوليرا والإسهالات المائية والتيفوئيد، في وقت تعجز فيه المستشفيات عن استقبال الأعداد المتزايدة من المرضى بسبب ضعف الإمكانيات ونقص الأدوية والمحاليل الوريدية.

المصادر الصحية في المحافظة أكدت أن انعدام الأمن المائي هو السبب الرئيسي وراء تفشي الكوليرا، مشيرة إلى أن معظم الإصابات مرتبطة مباشرة باستخدام مياه غير صالحة للشرب. كما نبهت إلى أن سوء شبكات الصرف الصحي، وضعف التوعية بالنظافة الشخصية، وعدم توفر مواد التعقيم كالكلور، كلها عوامل إضافية تزيد من انتشار المرض.

ومع هذا الوضع، تخشى السلطات من انفجار وبائي واسع النطاق قد يصعب السيطرة عليه، خصوصًا أن موجات الكوليرا السابقة أثبتت أن سرعة الانتشار تتضاعف مع تزايد اعتماد السكان على مصادر المياه غير الآمنة. وهو ما يجعل أزمة المياه في تعز اليوم ليست مجرد أزمة معيشية، بل كارثة إنسانية وصحية تهدد حياة مئات الآلاف من المدنيين.

معاناة مضاعفة تحت حصار وبنية منهارة

تُوصف مدينة تعز منذ سنوات بأنها "مدينة محاصرة"، ليس فقط عسكريًا، بل أيضًا إنسانيًا وخدماتيًا، حيث يعيش سكانها في ظل منظومة بنية تحتية متهالكة جعلت من الحياة اليومية تحديًا مستمرًا. فشبكة الصرف الصحي في المدينة قديمة، أنشئت قبل عقود ولم تُجرَ لها أي أعمال صيانة جذرية، وهو ما جعلها عرضة للانهيار والتسرب في أي لحظة. ومع مرور الوقت، تحولت هذه الشبكة إلى مصدر إضافي للتلوث بدلًا من أن تكون وسيلة للحماية الصحية، حيث تتسرب مياهها إلى الأحياء السكنية وتختلط أحيانًا بمصادر المياه الجوفية.

أما قنوات تصريف السيول التي يُفترض أن تحمي المدينة من مخاطر الأمطار الموسمية، فقد تحولت بفعل الإهمال وسلوكيات المواطنين إلى مكبات ضخمة للنفايات، الأمر الذي جعلها مغلقة وممتلئة بالقمامة. وفي كل موسم أمطار، تتحول الشوارع إلى مستنقعات مائية آسنة تختلط فيها السيول بمخلفات المنازل والفضلات، وهو ما يزيد من احتمالية تفشي الأوبئة.

هذا المشهد يتفاقم في ظل الحصار المفروض على المدينة منذ سنوات، والذي حدّ من دخول المواد الأساسية، بما فيها مواد البناء والصيانة الخاصة بالبنية التحتية. ومع غياب أي مشاريع صيانة حقيقية، انهارت شبكات الطرق، وتدهورت شبكات المياه والكهرباء، ليجد السكان أنفسهم في مواجهة مباشرة مع بيئة ملوثة غير قابلة للحياة.

وعلى الصعيد الصحي، تعجز المستشفيات والمراكز الطبية عن مواجهة هذا الواقع، إذ تعاني من نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، إضافة إلى عجز الكوادر الصحية التي تعمل في ظروف مرهقة وبإمكانيات محدودة. هذا النقص يجعل أي تفشٍ وبائي — مثل الكوليرا — بمثابة تحدٍ يفوق طاقة النظام الصحي المحلي على الاستيعاب، ويترك آلاف الأسر تواجه مصيرها دون رعاية كافية.

وبذلك، تتضاعف معاناة سكان تعز: حصار يحرمهم من أبسط مقومات العيش، وبنية تحتية متهالكة تفاقم أزماتهم، وبيئة صحية هشة تحوّل كل موسم أمطار أو أزمة مياه إلى كارثة حقيقية تهدد حياة الآلاف.

تحرك محلي للحد من الكارثة

أمام التصاعد المتسارع لأعداد الإصابات والوفيات جراء وباء الكوليرا، وجدت السلطة المحلية في تعز نفسها أمام مسؤولية عاجلة لاتخاذ إجراءات ميدانية للحد من تفشي المرض. وفي هذا السياق، دشّنت قيادة المحافظة حملة واسعة لتعقيم مصادر المياه والخضروات، في خطوة وُصفت بأنها "إجراء إنقاذي" يهدف إلى تقليص المخاطر الآنية، رغم محدودية الإمكانيات المتوفرة.

وكيلة المحافظة للشؤون الصحية، الدكتورة إيلان عبدالحق، أوضحت أن الحملة ستغطي جميع المنافذ الرئيسية المؤدية إلى المدينة، حيث تُجرى عمليات كلورة إلزامية لمياه الوايتات الداخلة إلى تعز، لضمان وصول مياه نقية نسبياً إلى الأهالي. كما أكدت أن فرقًا ميدانية جرى تشكيلها خصيصًا للعمل في الأحياء والمناطق المزدحمة والأسواق الشعبية، التي تعد من أكثر البيئات عرضة لانتشار العدوى، مضيفة أن الخطة تستند إلى أولويات مدروسة تبدأ بالمناطق الأشد تضررًا والأعلى كثافة سكانية.

من جانبه، شدّد مدير مكتب الصحة والسكان في تعز، الدكتور فهد النظاري، على أن هذه الحملة تمثل ضرورة ملحّة للسيطرة على الوباء قبل خروجه عن السيطرة، مبينًا أن المرحلة الأولى تركز على آبار المياه الرئيسية ومصادر الشرب المنتشرة في أطراف المدينة، بالإضافة إلى أسواق الخضروات التي غالبًا ما تُروى منتجاتها بمياه ملوثة. كما أوضح أن الفرق الطبية الميدانية ستعمل بالتوازي على توعية الأهالي بضرورة غلي المياه أو تعقيمها قبل الاستهلاك، في محاولة لتقليص انتقال العدوى عبر الاستخدام اليومي.

النظاري دعا في كلمته مختلف الجهات المحلية والمنظمات الدولية العاملة في القطاع الصحي والإنساني إلى تكاتف الجهود، مشيرًا إلى أن الحملة لن تحقق أهدافها إلا بدعم إضافي في توفير مواد الكلور وأدوات الرش، فضلًا عن تمويل فرق ميدانية إضافية لتوسيع نطاق التغطية. وحذّر من أن أي إخفاق في هذه المرحلة قد يعني دخول المدينة في كارثة صحية أكبر، حيث ستتضاعف معدلات الإصابات والوفيات بوتيرة قد تعجز معها المستشفيات عن الاستيعاب.

هذه الإجراءات، رغم أهميتها، تبقى حلولًا مؤقتة لا تعالج جذور الأزمة، التي تتمثل في غياب شبكة مياه آمنة ومنظمة صرف صحي حديثة. ومع ذلك، فإن نجاح الحملة في كبح التفشي مؤقتًا قد يمنح المدينة "هامش تنفس" تحتاجه بشدة حتى تُتخذ تدخلات أوسع وأكثر استدامة على مستوى البنية التحتية والخدمات الأساسية.

نذر أزمة ممتدة

ورغم التحركات العاجلة التي أطلقتها السلطات المحلية في تعز، يرى أطباء وخبراء صحة أن السيطرة على تفشي الكوليرا لن تكون ممكنة عبر إجراءات مؤقتة، بل تتطلب حلولًا مستدامة تُعالج جذور الأزمة. هذه الحلول تبدأ بتأمين مصادر مياه صالحة للشرب بشكل دائم، وإعادة تأهيل محطات الضخ القديمة، وإنشاء شبكات مياه جديدة تضمن وصول الإمدادات إلى الأحياء السكنية بعيدًا عن الاعتماد شبه الكامل على الوايتات الخاصة. كما يشدد الخبراء على أن تحديث شبكات الصرف الصحي المهترئة وتوسيعها يمثلان ركيزة أساسية لحماية المدينة من موجات وبائية قادمة، إلى جانب رفع مستوى الوعي المجتمعي بأهمية النظافة الشخصية وتعقيم المياه قبل استهلاكها.

لكن هذه الإجراءات، بحسب مراقبين، تصطدم بجدار من التحديات السياسية والاقتصادية. فالحصار المفروض على تعز منذ سنوات حال دون إدخال تجهيزات أساسية، فيما أدى انهيار المنظومة الاقتصادية إلى عجز السلطات عن تمويل مشاريع حيوية في البنية التحتية. في المقابل، تبقى المساعدات الدولية محدودة ومتقطعة، وغالبًا ما تنحصر في حملات آنية للإغاثة الصحية دون توفير بدائل طويلة الأمد تضمن استدامة الأمن المائي.

وبينما يجد سكان تعز أنفسهم عالقين بين خيارين أحلاهما مُرّ: شراء المياه بأسعار باهظة تفوق قدرة الغالبية العظمى من الأسر الفقيرة، أو المخاطرة باستخدام مصادر ملوثة تهدد حياتهم؛ يتفاقم الشعور بالعجز والخوف من مستقبل مجهول. ويؤكد ناشطون أن وباء الكوليرا لم يعد مجرد أزمة صحية، بل تحوّل إلى مؤشر إنذار مبكر على كارثة إنسانية أكبر قد تعصف بالمدينة إذا لم يُتعامل مع أزمة المياه كأولوية وطنية وعاجلة.

ويرى نشطاء محليون أن استمرار الوضع الراهن سيجعل تعز عرضة لموجات متكررة من الأوبئة، ليس الكوليرا وحدها، بل أمراض أخرى مرتبطة بالمياه والتلوث البيئي، مثل الإسهالات الحادة والتيفوئيد. وهو ما يجعل المدينة بحاجة إلى تدخل استراتيجي طويل الأمد يوازن بين الإغاثة الفورية والحلول الجذرية، حتى لا تتحول معاناة السكان إلى أزمة ممتدة تتوارثها الأجيال القادمة.