يعيش محور المقاومة الإيراني في مأزق، فقد أدى تدهور وضع حماس خلال الحرب الجارية في غزة، والمواجهة الأخيرة بين إسرائيل وإيران، وإضعاف حزب الله في لبنان، وسقوط نظام الأسد في سوريا، إلى إعادة تشكيل ديناميكيات الشرق الأوسط على حساب طهران وحلفائها بشكل كبير، مع استثناء وحيد مثله الحوثيون في اليمن.
على الرغم من خسائر إيران في مواضع أخرى، لا يزال الحوثيون متمسكين بالسلطة في صنعاء، ويبدو أنهم لم يتأثروا كثيراً بالعمليات العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون وإسرائيل على مدار عام ونصف، وهو ما يجعل الحوثيين أولوية مستمرة للدعم الإيراني كما يرى العديد من المراقبين، ورغم أن هذا الرأي ينطوي على بعض المنطق، إلا أن هناك فرصة لتغيير السياسة الإيرانية في اليمن، كجزء من جهود أوسع لتخفيف التوترات الإقليمية والتوصل إلى تسوية للصراع اليمني.
التوترات الدبلوماسية
عُلقت العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً وإيران في أكتوبر 2015، بعد فترة طويلة من التوترات المتصاعدة التي بلغت ذروتها بعد سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014، وبدء التدخل العسكري بقيادة السعودية في مارس 2015.
كانت العلاقات الدبلوماسية بين إيران واليمن بعيدة كل البعد عن الاستقرار تاريخياً. دعم شمال اليمن العراق رسمياً خلال الحرب الإيرانية-العراقية في موقف يتماشى مع موقف معظم الدول العربية، وفي حين أرسلت اليمن الشمالية آلاف الجنود للقتال إلى جانب الجيش العراقي، مالت اليمن الجنوبية التي كانت تربطها علاقات قوية مع سوريا وليبيا في الواقع نحو إيران ويسرت تهريب الأسلحة لها خلال الصراع، ولكن العلاقات الثنائية بين إيران والجمهورية اليمنية الموحدة حديثًا تحسنت بعد تلك الحرب، وأجريت عدة زيارات رسمية مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وأعرب اليمن عن دعمه لبرنامج إيران النووي.
أدى غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003، إلى بدء عهد جديد، حيث توسع دور إيران الإقليمي بشكل حاد، غالبًا من خلال تأجيج الانقسامات الطائفية في جميع أنحاء المنطقة، ودعم وكلائها في عدة دول مقوضين سلطة ونفوذ حكوماتها المركزية. تصاعد الصراع الداخلي في اليمن مع اندلاع حروب صعدة بين الحكومة والحوثيين عام 2004، وبدأ الحراك الجنوبي المطالب بانفصال جنوب اليمن يكتسب زخماً منذ العام 2007، واتهمت الحكومة اليمنية إيران بدعم كل من الحوثيين والحراك الجنوبي، بينما نفت طهران صحة هذه المزاعم. عادت التوترات مرة أخرى خلال الفترة الانتقالية في اليمن (2012-2014)، خصوصاً بعد ضبط الحكومة اليمنية سفينتين إيرانيتين جيهان 1 وجيهان 2 وهما في طريقهما لتهريب الأسلحة للحوثيين.
الاستفادة من التحالف مع إيران
منذ سقوط صنعاء عام 2014، واندلاع الصراع الأوسع في اليمن، تحول السؤال من وجود علاقة بين الحوثيين وإيران إلى مدى عمق تلك العلاقة واستراتيجيتها. الدافع وراء هذا التحالف لا يقتصر على التقارب الديني والأيديولوجي بين طرفيه، بل يمتد إلى التنافس بين إيران والسعودية، حيث استفادت طهران من التوتر في العلاقات بين السعودية واليمن في الوقت الذي تبنى الحوثيون خطاباً معادياً للرياض منذ ظهورهم في التسعينيات.
ازداد دعم إيران للحوثيين مع تدهور علاقتها مع السعودية، لا سيما بعد الاتفاق النووي الإيراني عام 2015، الذي نظرت إليه السعودية بعين الريبة. بلغت التوترات السعودية-الإيرانية ذروتها في يناير 2016، عندما أعدمت السعودية 47 شخصاً، بينهم رجل الدين الشيعي البارز نمر النمر، واحتجت إيران على الإعدامات باستدعاء القائم بالأعمال السعودي، واقتحم متظاهرون غاضبون السفارة السعودية في طهران، وأدى ذلك إلى قطع الرياض علاقاتها الدبلوماسية مع طهران.
كثفت إيران دعمها للحوثيين في ظل هذا الشرخ الدبلوماسي، الأمر الذي ساعد على تحسين قدرات الحوثيين في مجال الصواريخ والطائرات المسيرة، التي استخدمها الحوثيون بشكل متزايد لاستهداف الأراضي السعودية، وفي إحدى اللحظات الحاسمة في المنطقة، أعلن الحوثيون مسؤوليتهم عن هجوم على البنية التحتية للطاقة السعودية في سبتمبر 2019، باستخدام الصواريخ والطائرات المسيرة ، على الرغم من أن التحقيقات أشارت إلى أن الهجمات ربما انطلقت من الشمال، أي من العراق أو إيران، وهو الحدث الذي سلط الضوء على عمق العلاقات بين إيران والحوثيين وزاد من التوترات الإقليمية.
تحركت إيران والحوثيون لإقامة علاقات رسمية أكثر، حيث استقبلت إيران رسمياً سفير الحوثيين إبراهيم الديلمي في أغسطس 2019، وبعد مرور عام تقريبًا أي في أكتوبر 2020، أرسلت طهران حسن إيرلو، وهو ضابط في الحرس الثوري الإيراني سفيرًا لها في صنعاء، وتوفى إيرلو في ديسمبر 2021، وأعلن عن وفاته بسبب فيروس كورونا، لكن تقارير أخرى تزعم أنه قُتل في غارة جوية، ولم تعين إيران بديلاً له حتى أكتوبر 2024، عندما عينت عضواً آخر من الحرس الثوري الإيراني، علي محمد رمضاني، سفيراً لها بصنعاء.
في مواجهة الجمود واستمرار الهجمات على أراضيها، اضطرت السعودية إلى إعادة النظر في نهجها تجاه اليمن، وبالتالي في علاقتها مع إيران، الداعم الرئيسي للحوثيين، وبدأت إيران والسعودية محادثات مباشرة في بغداد بهدف تخفيف التوترات بين البلدين عام 2021، وأعلنت هدنة في اليمن في أبريل 2022، كشرط سعودي رئيسي لمواصلة الحوار مع طهران، ومهدت هذه المحادثات في نهاية الأمر الطريق لاستئناف العلاقات الدبلوماسية عبر اتفاق بوساطة صينية في مارس 2023.
عهد جديد
شنت إسرائيل حملة عسكرية ضد إيران في 13 يونيو الفائت، واستخدمت طائراتها المجال الجوي فوق سوريا والعراق، وكانت المفارقة أن الدولتين اللتين استثمرت فيهما إيران بكثافة لبناء نفوذها استُخدمت كمعبرين لشن هجمات ضدها، في حين رفضت دول الخليج السماح باستخدام مجالها الجوي. جاءت استثمارات طهران لسنوات في تقويض بعض الدول العربية من أجل الحصول على نفوذ جيوسياسي بنتائج عكسية في نهاية المطاف، عندما لم يتمكن حلفاؤها المحليون في تلك الدول من مساعدتها في وقت حاجتها، الأمر الذي يؤكد درساً أكبر وهو أن محاولات اكتساب الهيمنة الإقليمية من خلال إضعاف الجيران غير مستدامة، ويمكن أن تؤدي إلى عواقب سلبية على المدى الطويل.
فشلت هجمات الصواريخ والطائرات المسيرة التي يشنها الحوثيون ضد إسرائيل، والهجمات على السفن التجارية في البحر الأحمر، في إجبار إسرائيل على التراجع عن حروبها في المنطقة، حيث كانت التهديدات التي تشكلها جماعة الحوثيين ذات قيمة استراتيجية محدودة لإيران في مواجهتها المباشرة مع إسرائيل، بسبب المسافات الطويلة والقدرات المحدودة لصواريخ الحوثيين، ولكن القيمة الأساسية للحوثيين بالنسبة لطهران تكمن في قدرتهم على تهديد دول الخليج.
عموماً لم تنقذ سياسة الوكلاء إيران، ولم تمنع إسرائيل والولايات المتحدة من شن عمل عسكري مباشر ضدها، وهناك العديد من المؤشرات على أن هذه المواجهة قد تستأنف. من ناحية أخرى، لدى دول الخليج وإيران حوافز قوية لمواصلة التقارب، على أساس احترام سيادة الدول ودعم زيادة الاستقرار في المنطقة.
يشكل اليمن نقطة انطلاق جيدة وفرصة هامة لبناء الثقة، حيث يمكن لإيران أن تبرهن على حسن نواياها من خلال وقف دعمها العسكري لجماعة الحوثيين، وإعادة الانخراط الدبلوماسي مع الحكومة المعترف بها دولياً. تؤكد التطورات الأخيرة على ضرورة تهدئة التوترات، مما يجعل هذا الوقت مثالياً لتحويل العلاقات الإقليمية نحو التعاون بدلاً من الصراع والتنافس.
*مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية