هناك قبح في هذا البلد لم تصنعه الحرب، ولا الفقر، ولا الجوع… بل صنعه بعض البشر بأنفسهم؛ قبحٌ يمشي على قدمين، ويرفع رأسه بلا حياء، ويقتات من جروح المرضى كأيّ وحشٍ يبحث عن فريسة.
بهذا المقام لا نتحدث عن خطأ عابر أو سلوك فردي… نحن نتحدث عن فئة قذرة حولت الألم إلى مشروع، وحاجة الناس إلى سوق، وكرامة المرضى إلى طاولة مقايضة.
فئة ترفع شعار "حقي كم؟!"، وكأنه يعلو فوق كل قيمة، وكأن الوجع مجرد فاتورة يمكن تقسيمها، وكأن دموع المرضى أشياء مباحة للنهب.
هؤلاء ليسوا "متعاونين" ولا "وسطاء".
إنهم سماسرة بوجوه آدميّة وقلوب ميتة، يقتسمون المنحة مع مريض يحتضر، ويبتسمون وهم يسرقون من تحت يد أمٍ تبحث عن علاج ابنها، ويبرّرون فعلتهم الغارقة في الانحطاط بأنها "عمولة" أو "بدل تعب".
فأي تعب هذا؟!
من يتقاضى أجراً مقابل وجع إنسان فهو متسلق على الدم، طفيلي على الحاجة، وتاجر في سوقٍ لا أخلاق فيه.
اليمني الذي كان يفاخر بكرامته صار يُهان على يد من يُفترض أنهم أهله.
اليمني الذي كان يُقال عنه "يموت ولا يشحت"، أصبح اليوم يدفع نصف منحة العلاج للسمسار لمجرد أن أحدهم اتصل له بتاجر أو كتب له رسالة.
قمة الإذلال ليست من الغريب… بل من ذاك القريب الذي يسرق باسم الخير، ويعتاش على فتات المرضى، ويتحدث بوجه المتصدقين وهو أبعد ما يكون عن الإنسانية.
هؤلاء لا يختلفون عن اللصوص…
اللص يسرق ليلاً ويهرب، أمّا هم فيسرقون نهاراً ويبتسمون.
اللص يعرف أنه يفعل خطيئة، أمّا هم فدخلوا مرحلةً أسوأ: مرحلة الاستباحة… استباحة الوجع، استباحة الحاجة، استباحة الكرامة.
أي مجتمع يمكنه أن يقبل بهذا؟
أي مجتمع يمرّ عليه مشهد اقتسام منحة علاجٍ مع مريض دون أن ينتفض؟
أي بيئة تسمح بتحويل الإنسانية إلى "موسم" تُجنى منه الأموال؟
هذه ليست ظاهرة؛ إنها عار جماعي.
عار يصفع كل من صمت، وكل من رأى وسكت، وكل من تظاهر بعدم المعرفة.
إذا لم يتم كشف هؤلاء بالأسماء، إذا لم يتم فضحهم، إذا لم يُقال: هذا هو السمسار، وهذا هو التاجر الذي فتح الباب، وهذا هو الذي يساوم المرضى…
فإننا شركاء في الجريمة.
المساعدات ليست ملكاً لأحد… والمنح ليست غنيمة… والوجع ليس مشروعاً تجارياً.
من يتاجر بكرامة المريض لا يستحق الاحترام، ولا الشفقة، ولا السكوت.
هو وصمة عار في جبين المجتمع، ويجب التعامل معه كما يُتعامل مع أي متطفل على حياة الناس…
فلا يُكرّم، ولا يُحترم، ولا يُؤتمن.
نحن بلدٌ جريح، نعم…
لكنّ الجرح الذي يتركه المحتال باسم الخير أعمق من جراح الحرب نفسها.
فالعدو واضح، أمّا هذا السمسار فهو عدو مُتخفٍ في هيئة رحمة… وهو أخطر بكثير.
>
