في الواقع، تدفع الشعوب اليوم أثمانًا باهظة، ويتحمّل أهالي المنطقة أعباء صراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل. صراعات تحتدم بين أطراف تتنازع على الأرض والموارد والأسواق والسلطة والنفوذ، وكان من نصيب الأقوى أن يمارس بلطجة متطرفة لا يتقن فيها سوى لغة الحديد والوعيد، ما أشعل نيرانًا يصعب إخمادها، تسحق الشعوب في المنتصف بلا رحمة، وتستهلك كوقود لأجندات لا تعبأ بإنسان، ولا تحترم قوانين أو ذاكرة أو تشريعات.
لكن في وسط هذا الظلام المدقع، ومن رقعة جغرافية صغيرة -من غزة- اشتعلت قضية بدت للوهلة الأولى محلية، لكنها سرعان ما كشفت عن تاريخ طويل من الإنكار والتغييب والتجهيل والاستنزاف والكذب والتضليل، الذي عانت منه شعوب كثيرة في بقاع الأرض، وتسبّب في اهتزاز سرديات كبرى عن الحضارة والديمقراطية وحقوق الإنسان. وفي ظل الفضاء الرقمي المفتوح ووسائل التواصل الحديثة، بدأ العالم يطّلع على المآسي التي أصابت أممًا وشعوبًا طالها الظلم والإبادات، وأثخنتها الحروب والإقصاء، بالرغم من محاولات كثيرة لتضييق الخناق على الأفراد في حرياتهم بالرأي والتعبير، ومحاولات لضبط السرديات المتداولة. لكن وسائل التواصل الاجتماعي، على علاتها، فتحت المجال أمام سرديات كانت غائبة أو مغيّبة، وأعادت إحياء قضايا ظُنّ أنها طُويت إلى الأبد وربما نجح الأفراد إلى حدٍّ ما في فرض رؤيتهم على المنصات الرقمية، فبدأ العالم يرى ويسمع. ليس لأن الأنظمة أرادت ذلك، بل لأن الشعوب قررت أن تتكلم. بدأ الإدراك يزداد بأننا ورثة نظام عالمي مريض، تشكّلت ملامحه قبل قرنين أو أكثر، وها هي جذوره المتعفنة تظهر للعلن، ويبدأ الناس -ولو ببطء- بفهم عمق الورطة. وها نحن نشهد كيف بدأت تخرج إلى العلن مآسي أمم كاملة: من حق الهنود الحمر في أراضيهم، وحق شعوب المايا والإنكا، وشعوب الأرض الأصلية كافة، من كندا حتى أستراليا، وكل السياسات والأفعال المشينة التي وقعت في حق الشعوب على مرّ التاريخ.
هذه ليست مصادفة، بل ارتداد طبيعي لوعي جديد يتشكّل. أجيال جديدة بدأت تتساءل: لماذا اختفى هذا التاريخ؟ من كتبه؟ وما التاريخ الحقيقي بعيدًا عن السرديات الجاهزة التي تم إغراق عقولنا بها؟ من أخفى الحقيقة؟ وما هي الحقيقة؟ ما الذي يجعل حقوق بعض الشعوب مرئية ومقدّسة، وحقوقا أخرى مدفونة لا يُسمح حتى بذكرها؟ تاريخ أوروبا الأسود طفا على السطح من جديد، ومعه شيطنة الإدارات الأميركية المتعاقبة التي طالما لبست قناع الدفاع عن الديمقراطية والحقوق ومحاربة الإرهاب، بينما كانت تمسك بخيوط اللعبة من الخلف، وتدير الصراعات على هوى مصالحها وأمنها القومي. تلك الدول العميقة، التي تتحكم في مصائر العالم، لا تخضع لصندوق انتخاب ولا لضمير أخلاقي، بل لمنظومة مصالح معقدة تمسك حتى السياسيين من خاصرتهم المريضة، وتبتلع كل من يحاول التمرد عليها.
وربما لهذا بالتحديد، تبدو لحظة الوعي هذه ناقصة. فمع اتساع المعرفة وتفتّح العيون، ما زال التغيير السياسي غائبًا. هناك إدراك متزايد بأن اللعبة تُدار خلف الكواليس، وأن الحقائق التي تعلّمناها لم تكن كاملة ولا بريئة، لكن هذا الإدراك لم يتحوّل بعد إلى فعل منظّم أو ضغط سياسي فعلي يغيّر المعادلة. وها هنا يكمن التحدي الكبير: أن هذا الوعي، على أهميته، لم يدخل بعد إلى قلب صناعة القرار، ولا يزال في معظم الأحيان خارج أجندات السياسة العالمية التي تحدّدها القوى الكبرى والمصالح العابرة للقارات.
ولكي نضع الحروف في مكانها المناسب، وحين نضع الموضوع في سياقه الواقعي، لا بد من الاعتراف بأن هذا الوعي الجمعي، بكل ما حمله من كشف ومساءلة، كان مكلفًا بشكل لا يُطاق. ثمنه كان عشرات الآلاف من القتلى في غزة وحدها، وتضييق الخناق على الضفة، وآلافًا غيرهم في كل رقعة من هذا الشرق الجريح.
من المؤلم تمجيد التضحية لأجل لحظة وعي عابرة، ومن غير الأخلاقي والإنساني فكرة تقديم الأفراد قرابين لأجل عدالة لا تُطبّق. الإنسان هو الأهم، حياة الأفراد تبقى الأغلى. وكل هذه الملايين التي ضاع عمرها وأحلامها وقوتها ومستقبلها تحت مقصلة المصالح السياسية، لا ينبغي أن تُختصر في جملة “أدى ذلك إلى وعي جمعي.” فلم يكن الثمن يستحق، ولا ثمن يستحق هؤلاء الأطفال الجياع، المقتولين بلا ذنب، خاصة أنه لا يبدو أن النظام العالمي اليوم أو غدًا بصدد التوقف أو الاعتذار أو الإصلاح، بل يتمادى ويتمدد في بطشه.
لكن ما حدث قد حدث. لذا، إن كانت هذه حقًا لحظة وعي للشعوب بحقوقها، ولحظة إدراك لحقيقة سير النظام العالمي بأكمله، فلتكن بصيص أمل وبداية شيء حقيقي وعميق، لا مجرد لحظة انفعال عابرة. مع أن الطريق طويل، وقد لا نشهد التغيير في أعمارنا القصيرة، لكن المعرفة -كما كانت دومًا- ربما تكون الخطوة الأولى نحو الخلاص. وربما لا نمتلك القوة الآن، ولا الأدوات، والواقع يبدو أقسى من أن تلامسه رومانسية فكرية أو ذاكرة جماعية. لكننا نكتب، ونفكك، ونُضيء ما أمكن من زوايا مظلمة. فحتى في أعمق لحظات الحلكة، قد يكون مجرد إدراكنا لجذور المأساة بداية للخروج منها.
هذا المقال ليس إعلان نصر، ولا شعارات رنّانة، ولا استعطافًا لعاطفة الشعوب، ولا رؤية رومانسية للواقع، فالمشهد أقسى من أن يتم تجميله. إنما هو فقط محاولة لرؤية النور وسط العتمة، مجرد تأمل في لحظة مفصلية، حيث تتلعثم السرديات الرسمية وتبدأ الشعوب باستعادة صوتها وتاريخها. على الأقل، من أجل كل الذين رحلوا بلا ثمن، ومن أجل الشعوب التي تم محوها بصمت، دون حتى أن نُحيي ذكراها أو نروي قصتها… فلتكن هذه المرة مختلفة، لأن هذه لحظة الوعي كلفتنا شرقًا كاملاً.
*صحيفة العرب اللندنية