"هنا لندن".. إغلاق رحلة حياة دامت أكثر من 8 عقود

تقارير - Friday 07 October 2022 الساعة 06:35 am
المكلا، نيوزيمن، خاص:

في ركن مقهى شعبي بمدينة المكلا، مركز محافظة حضرموت على ساحل بحر العرب، يجلس شيخ كبير في السن كل صباح ممسكاً في يده كوباً من الشاي الأحمر واليد الأخرى جهاز راديو قديماً ويتنقل بين أثير عدد من الإذاعات المحلية التي تبث من داخل المدينة أو خارجها للبحث عن أية نشرة أخبار تروي فضوله وتكشف له الحقيقة حول الأحداث والقضايا الهامة على الساحة اليمنية والعربية والدولية.

شغف كبير يرتسم على وجه هذا المسن وهو يمعن ويدقق بشكل كبير على لوحة الترددات في جهاز الرديو لا يفارقه في انتظار سماع الفرج والصوت السعيد الذي يبدأ بدقات ساعة "بيغ بن" والعبارة الشهرية لمذيعيها "هنا لندن" التي تدوي أصقاع الوطن العربي..

الحاج أو الأستاذ القدير إدريس محمد بن سالم آل سلوم يقول لـ"نيوزيمن"، على مدى الـ30 عاماً الماضية كان جهاز الراديو وإذاعة لندن، كما يحلو له أن يسميها، الرفيق والشريك الحقيقي لحياته الصباحية والمسائية، لا يمكن أن يمر عليه يوم ولا يسمع فيه دقات "بيغ بن" وصوت المذيع وهو يدوي "هنا لندن" لتنطلق عقبها الأخبار وتفاصيل الأحداث.

ويضيف "المقهى تسوده حالة من الصمت المطبق مع سماع دقات "بيغ بن" وهي تعلن اقتراب لحظة الحقيقة وسماع تفاصيل الأحداث خصوصاً الأحداث والاضطرابات التي تشهدها البلدان العربية، أحداث كثيرة مرت علينا وكانت فيها الإذاعة اللندنية حاضرة بقوة لنقل الحقيقة بل وأصبحت الإذاعة المنبر الأول الذي عاشت معه الأجيال بكل التفاصيل والأحداث والمنعطفات التاريخية التي لا يمكن نسيانها".

مع «هنا لندن» وقبل ولادة دول عربية كثيرة، تعرّف أجدادنا وآباؤنا على عالم واسع مع أحداث كبرى في السياسة والاقتصاد والثقافة، وكانت «هنا لندن» أكبر من نشرة أخبار، كانت «رفيقة الأجيال» بلغة عربية متماسكة وببرامج متنوعة، صارت مدرسة إعلامية برز فيها عرب كثر، وكانت حافزاً لكثيرين ليدخلوا عالم الصحافة.

مع خبر الإغلاق الذي نشر يوم الخميس الماضي عادت للكثيرين من متابعي الإذاعة على مدى العقود السابقة أسماء البرامج التي «شكلت وجدانهم» من بينها «قول على قول» و«السياسة بين السائل والمجيب» و«حديث الساعة» و«صندوق النغم» و«عالم الكتب» وصدى الصوت المتميز مع نشرات الأخبار الصباحية والمسائية.

الخبر الموجع.. إغلاق مفاجئ

منذ انطلاقها في يناير/كانون الثاني 1938 وعلى مدار 84 عاما ظل المستمعون العرب شغوفين بدقات ساعة "بيغ بن" والعبارة الشهيرة لمذيعيها "هنا لندن"، لكن وبدون أية مقدمات جاء الخبر الموجع للكثيرين خصوصا من الأجيال التي عاشت مع هذه الإذاعة فصولاً من الحياة، بإعلان إيقاف هذا الصوت وجعله تاريخاً وذكرى.

وأوضحت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، يوم الجمعة، وقف البث الإذاعي بـ10 لغات، من بينها العربية والفارسية والصينية والبنغالية، إلى جانب إلغاء مئات الوظائف عبر الخدمة العالمية، موضحة في بيان، أنها "تعتزم إلغاء 382 وظيفة بالخدمة العالمية في إطار جهودها الرامية لتوفير 28.5 مليون جنيه إسترليني من المدخرات السنوية لخدماتها الدولية، وإن التضخم المرتفع وارتفاع التكاليف أدى إلى خيارات صعبة للهيئة".

أثار إعلان الهيئة تفاعلاً واسعاً على شبكات التواصل الاجتماعي، إذ عبر كثيرون عن حزنهم لهذا الخبر، مودعين صوت "لندن" الذي رافقهم لسنوات طويلة.

وإعلان الهيئة البريطانية وقف البث الإذاعي لـ"بي بي سي" بعدة لغات ومنها العربية، مثل خبرا صادما وموجعا على المواطن العربي واليمني أمثال الاستاذ القدير إدريس في المكلا يواجهون صعوبة في تقبل القرار، لا يزالون يوميا وكعادتهم يقومون بإعادة البحث عن تردد الإذاعة على أمل أن يسمعوا الصوت مرة أخرى وتعيد كلمة "هنا لندن" ودقات الساعة الشهيرة الروح من جديد.

لعل الكثير من المستمعين العرب والإعلاميين صعقوا بهذا النبأ الفاجعة، كما وصفه البعض بالردود التي تصاعدت على قرار الإغلاق.

أجيال عدة ترعرعت من الصغر على سماع أخبار العالم من ساعات الصباح الأولى وحتى المساء، أصوات المذيعين الشجية التي نقلت الأخبار بالعربية عبر هذه الإذاعة العريقة، التي احترمت الحقيقة والعقل العربي وقدمت له أسلوباً راقياً في نقل الأحداث وتفاصيلها، وبلغة راقية جعلت المستمع يحب ويعشق لغته العربية.

نهاية مؤسفة.. لإذاعة عريقة

لا يختلف اثنان من أن العصر الحالي عصر الانترنت والفضاء الرقمي يعد أحد المتغيرات التي دفعت بالكثير من أبناء الجيل الحالي إلى العزوف عن استماع الإذاعات الإخبارية والاكتفاء إلى الاستماع عبر راديو السيارات بإذاعات متنوعة وفنية لتمضية الوقت، وهو ما أدى إلى تغير الجمهور والمستمع العربي الذي أصبحت الأخبار تصله بسرعة فائقة عبر وسائل إعلامية مختلفة بعد أن كان المستمع يتربص أوقات نشرات الأخبار من إذاعة بي بي سي عربية في الصباح وبعد الظهرة والمساء ويعد لها العدة أمام جهاز الراديو ويلتف حوله الكثيرون للاستماع إلى النشرة التفصيلية.

وبحسب مديرة الخدمة العالمية في "بي بي سي" ليليان لاندور، فإن هناك "حجة مقنعة" لتوسيع الخدمات الرقمية، فقد زاد عدد المشاهدين أكثر من الضعف منذ عام 2018، مضيفة إن "الطريقة التي يصل بها الجمهور إلى الأخبار والمحتوى آخذة في التغير، كما أن التحدي المتمثل في الوصول إلى الناس وإشراكهم في جميع أنحاء العالم بصحافة ذات جودة وموثوقية آخذ في الازدياد".

تاريخ حافل

لعل الكثيرين منا لا يعرف الصعوبة التي بدأت فيها الإذاعة اللندنية من خلال مكتب الاستعمار البريطاني الذي قام بإنشاء خدمة "إذاعة فلسطين" في القدس عام 1936، وهي إذاعة على الموجة المتوسطة كان الهدف منها بث وجهات النظر البريطانية إلى العالم العربي، في خطوة منافسة للبث الإذاعي الإيطالي باللغة العربية يبث على موجة متوسطة وقصيرة في عام 1934 وكان يهاجم السياسات البريطانية.

وإلى جانب البث من مكتب الاستعمار في القدس كان هناك أيضا بث إذاعي من قبرص التي كانت وقتئذ مستعمرة للتاج، خصوصا وأنها كانت أكثر استقرارا من فلسطين أثناء الانتداب البريطاني، ليأتي القرار النهائي من هيئة الإذاعة البريطانية وتحديدا في عام 1938، أي بعد 16 عامًا من تأسيس هيئة الإذاعة البريطانية ليتم إعلان بدء البث باللغة العربية لمدة 65 دقيقة بنشرة أخبار واحدة، لتصبح إذاعة "بي بي سي" العربية واحدة من أقدم وأطول الخدمات الإخبارية.

وبعد سنتين من الانطلاقة وفي عام 1940، زادت مدة البث إلى ساعة و25 دقيقة وظهرت نشرة إخبارية ثانية بعد قراءة القرآن في الصباح، وما يقرب من ساعتين بحلول عام 1942، وبحلول نهاية الحرب العالمية الثانية كان بث اللغة العربية يمتد 3 ساعات، واستخدمت اللغة العربية الفصحى للبث، وفي نفس العام تم بث نشرة إخبارية ثالثة في "منتصف النهار" في الساعة 10:45 بتوقيت غرينتش الموافق 1:45 بالتوقيت المحلي لليمن.

وظلت النشرات الإخبارية باللغة العربية أخبارا محلية في بداية الأمر ومقتصرة على ترجمات لأعمال "الخدمة الإمبراطورية" باللغة الإنجليزية التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، إلى أن تم إنشاء دائرة عربية للإذاعة ومكتب في القاهرة عام 1943 لتكون خطوة هامة أتاحت للإذاعة جمع الأخبار المباشرة من مصادر بالشرق الأوسط، ووصلت فيها الإذاعة إطالة ساعات البث لتصل إلى 16 ساعة إلى إبان حرب الخليج الأولى وما تلاها من أحداث، حيث ركزت الإذاعة على البرامج الإخبارية وزادت من فترة إرسالها لتبلغ 24 ساعة لتتمكن من المواكبة المستمرة لتطور الأحداث بمنطقة الشرق الأوسط.

ردود حزينة

قد لا يعرف جيل الشباب الحالي عما نتحدث، لكن آباءهم وأجدادهم كبروا -على مدار عشرات السنين- في غياب محطات تلفزة وشبكات تواصل وانترنت، على سماع أخبار وبرامج إذاعة "هنا لندن"، التي لجأوا إليها لعدم تصديقهم أخبار الإذاعات العربية، فعلى مدى عقود ظلت الحقيقة مقصروة على مذياع بي بي سي عربية وعلى "هنا لندن" ووقع دقات ساعة «بيغ بن».

صدمة الأستاذ القدير إدريس لم تكن أحسن حال من الكثيرين من أبناء اليمن الذين عاشوا وترعرعوا منذ الصغر على سماع أخبار الدنيا في الصباحات والأمسيات وبعد ساعات الغداء، خلال الأيام الماضية شهدت مواقع التواصل الاجتماعي خصوصا موقعي «تويتر» و«فيسبوك»، تفاعلات كثيرة تحت وسم #bbcarabic و #إغلاق_إذاعة_بي_بي_سي_عربي للتعبير عن صدمتهم من قرار الإغلاق.

الإعلامي اليمني "صابر حزام" قال "هنا لندن، القسم العربي بهيئة الاذاعة البريطانية" ماجد سرحان، جورج مصري، محمود المسلمي، حسام شبلاق وأسماء أخرى لامعة نشأنا وترعرعنا مع أصواتها في إذاعة بي بي سي العربية، خبر صادم إغلاق القسم العربي فيها".

وأضاف "أتذكر سعادتي مطلع الألفية عندما تحول بثها إلى 24 ساعة، رافقتني منذ صغري وخلال دراستي للإعلام بشكل مستمر، خلال السنوات العشر الأخيرة، كان الاستماع لها متقطعاً بسبب فارق التوقيت الكبير بين لندن وطوكيو".

وعن أبرز الأخبار التي سمعها عبر الإذاعة قال "سمعت خبر أحداث الـ11من سبتمبر للمرة الأولى منها، عند اصطدام الطائرة الأولى ببرج التجارة العالمي، كانت الإذاعة جزءا من ذاكرتنا وحياتنا، خبر اغلاقها محزن للغاية".

وعلى «تويتر»، قال كاتب صحافي: «عبر إذاعة بي بي سي، ولدت 3 من أحلامي الكبيرة: أن أصبح كاتبا، وأن أصبح صحفيا، وأن أجول العالم الذي كنت أراه من خلال بي بي سي، أتعرف إليه وأراه رؤية العين... بي بي سي ليست مجرد إذاعة، ودقات بيغ بن ستبقى ترن في الأعماق».

أصوات وبرامج لا يمكن نسيانها..

على مدار أكثر من 80 عاماً ظلت "هنا لندن" تصدح بأصوات عربية جهورية أجبرت المستمعين على الإنصات بشكل كبير، ولعل أبرز تلك الأصوات التي رافقت الإذاعة والمستمعين في تلك السنوات المذيع رشاد رمضان الذي توفي في 17 يوليو/ تموز 2022، والتحق رمضان بالعمل فيها عام 1968 واشتهر بقراءة الأخبار بصوته الجهوري الرخيم وبتقديمه البرنامج الإذاعي الشهير "ندوة المستمعين" الذي قدمه رمضان في العام 1982 وحظي البرنامج بنسبة استماع ومتابعة عالية من الجمهور العربي، كما قدم رشاد رمضان بالاشتراك مع زميلته المذيعة ندى المهتدي أيضاً البرنامج اليومي "صباح الخير من لندن".

وأيضا لا يمكن للمستمع العربي نسيان الإعلامي والمذيع الفلسطيني الراحل ماجد سرحان، إعلامي فلسطيني، الذي اعتبر من الأصوات المميزة وأنجح المذيعين ومقدمي البرامج السياسية والإخبارية كعالم الظهيرة، حصاد اليوم الإخباري، ومشوار المساء، وأسبوعيات الثقافة والأدب، ومن أبرز كلماته التي ظلت حاضرة في قلوب كثير من الناس والأوساط الإعلامية والسياسية: "وهذا ماجد سرحان يحييكم من لندن"، "هنا لندن"، "أيها السيدات والسادة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته".

ولا يمكن نسيان المذيعة الأردنية مديحة المدفعي أول صوت نسائي ينطلق من القسم العربي لقراءة نشرات الأخبار عام 1960 حتى قبل أن يسمح للمذيعات بذلك في الخدمة العالمية في بي بي سي بخمسة عشر عاماً.

ولعل أبرز الأصوات التي شكلت ذاكرة المستمعين في هيئة الإذاعة البريطانية الصحفي والإعلامي المصري محمود المسلمي الذي غطى أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول لحظة قراءة النشرة الإخبارية في الظهيرة، وكذا الإعلامي حسن الكرمي الذي أعد وقدم برنامجه المعروف قول على قول، والذي استمر في تقديمه ثلاثين عاماً متتالية، وسالم كايد العبادي انضم إلى بي بي سي عام 1987 وقدم برامج منها "حول العالم العربي" وعالم الظهيرة" الإخباري، وأيوب صديق، أحد الأصوات المعروفة في راديو بي بي سي في الثمانينيات والتسعينيات وغيرهم الكثيرون.